بسم الله
الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على نبينا محمد و آله و أصحابه أجمعين
نتابع اليوم
ما بدأناه في سلسلة الدروس عن الملائكة الكرام, و حديثنا اليوم عن صفاتهم الخَلْقية
والخُلُقية .
أولا - الصفات الخَلْقية
المادة التي
خلق الله منها الملائكة
عن عائِشةَ
رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (خُلِقَت المَلائِكةُ
من نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ من نارٍ) رواه مسلم.
وقتُ خَلْقِهم
اللهُ أعلمُ
بوَقتِ خَلْقِهم، إلَّا أنَّه قطعًا سابِقٌ على خَلقِ آدَمَ عليه السَّلامُ، بدَليلِ
قَولِ اللهِ تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ
خَلِيفَةً [البقرة: 30] .
الصورة الحقيقية
للملائكة
لم يَرِدْ
أنَّ أحَدًا من هذه الأمَّةِ رأى المَلائِكةَ في صُوَرِهم الحقيقيَّةِ إلَّا النَّبيَّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ مرَّتينِ في صورتِه التي
خلقه اللهُ عليها، وهما الرُّؤيتانِ المذكورتانِ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ
الْمُبِينِ [التكوير: 23]، وفي قَولِه سُبحانَه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم: 13-15]، حين عُرِجَ به
إلى السَّمَواتِ.
وعن عائشةَ
رَضِيَ اللهُ عنها أنها سُئِلَت عن قَولِه تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:
8]، فقالت: (إنما ذاك جبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان يأتيه في صُورةِ الرِّجالِ،
وإنَّه أتاه في هذه المرَّةِ في صُورتِه التي هي صورتُه، فسدَّ أُفُقَ السَّماءِ).
وعن عبدِ
اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى
جِبريلَ له سِتُّمائةِ جَناحٍ).
و قال اللهُ
تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا
يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر: 1] .
أي: منهم
من له جناحانِ، ومنهم من له ثلاثةٌ، ومنهم من له أربعةٌ، ومنهم من له أكثَرُ من ذلك
و لقد جرى العرف عند النَّاسِ بوَصفُ المَلائِكة بالجمالِ،
كما قال الله تعالى في شأنِ النِّسوةِ حين رأينَ يُوسُفَ عليه السَّلامُ: فَلَمَّا
رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا
بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31], و لكن ورد في الشرع وصف بعضهم
بالقوة و السلامة من الآفات و بعضعم بغير ذلك:
قال اللهُ
تعالى في شأنِ جِبريلَ عليه السَّلامُ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى
[النجم: 5-6].
قال ابنُ
كثير: (ذُو مِرَّةٍ أي: ذو قُوَّةٍ. قاله مجاهِدٌ، والحسَنُ، وابنُ زيدٍ. وقال ابنُ
عَبَّاسٍ: ذو مَنظَرٍ حَسَنٍ. وقال قتادة: ذو خَلقٍ طويلٍ حَسَنٍ.
أما زبانية
جهنم فقد وصفهم الله بغير ذلك حين قال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ
شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:
6].
و عن سَمُرةَ
بنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حَديثِ
المِعْراجِ: (... فانطَلَقْنا فأَتَينا على رَجُلٍ كَرِيهِ المَرْآةِ، كأكرَهِ ما أنت
راءٍ رَجُلًا مَرآةً، وإذا عِنْدَه نارٌ يَحُشُّها ويسعى حَولَها. قال: قُلْتُ لهما:
ما هذا؟! قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقِ، فانطَلَقْنا... -وفيه-: قالا لي:... وأمَّا
الرَّجُلُ الكَريهُ المَرْآةِ، الذي عند النَّارِ يَحُشُّها ويَسْعى حَوْلَها، فإنَّه
مالِكٌ خازِنُ جَهَنَّمَ).
قُدرةُ المَلائِكةِ
على التشَكُّلِ بغيرِ أشكالِهم
أعطى اللهُ
المَلائِكةَ القُدرةَ على أن يتشَكَّلوا بغيرِ أشكالِهم. فقد جاء جبريل إلمريم و قد
تمثل لها بسرا و كذلك إلى سيدنا ابراهيم و سيدنا لوط عليهم السلام.
قال اللهُ
عَزَّ وجَلَّ: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا
وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ [هود: 77].
قال ابنُ
كثير: (ذكَرْنا في التفسيرِ ما ذكره غيرُ واحدٍ مِنَ العُلَماءِ مِن أنَّ المَلائِكة
تَبَدَّوا لهم في صورةِ شَبابٍ حِسانٍ؛ امتحانًا واختبارًا، حتى قامت على قَومِ لوطٍ
الحُجَّةُ، وأخذهم اللهُ أَخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ).
المَلائِكةُ
لا يَأكُلونَ ولا يَشرَبون ولا يَنكِحون و لا يتصفون بالأنوثة
قال اللهُ
تعالى: فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 26[ , وقال اللهُ سُبحانَه: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ
لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ]هود: 70].
قال السَّمعاني:
(قَولُه تعالى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ أي: لَمَّا رآهم لا
يأكُلون؛ فإنَّ المَلائِكةَ لا تأكُلُ).
والملائكة
عند جمهور العلماء ذكور و ليسوا إناثأ كما ادعى المشركون في الجاهلية, وقال سُبحانَه
رادًّا عليهم: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا
أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف: 19]
فالمقصودُ
أنهم يأتون ويتشَكَّلون بصُوَرِ الرِّجالِ لا بصُوَرِ النِّساءِ، وهم موصوفون بصفاتِ
الرِّجالِ، بصِفاتِ الذُّكورةِ لا بصفاتِ الإناثِ، ولكِنْ لا يعلَمُ كيفيَّةَ خَلْقِهم
وصِفةَ خَلْقِهم وحقيقةَ خَلْقِهم إلَّا هو سُبحانَه وتعالى؛ فتفصيلُ خَلْقِهم وما
هم عليه، هو اللهُ الذي يعلَمُه.
المَلائِكةُ
لا يَمَلُّون ولا يَتعَبون
المَلائِكةُ
يقومون بعبادةِ اللهِ وطاعتِه بلا كَلَلٍ ولا مَلَلٍ، ولا يُدرِكُهم ما يُدرِكُ البشَرَ
مِنَ التَّعَبِ. قال اللهُ تعالى في شأنِهم: فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ
لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38].
منازل الملائكة
و أعدادهم
مَنازِلُ
المَلائِكةِ ومَساكِنُها هي السَّماءُ. ورد عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
يقولُ: (إنَّ المَلَائِكَةَ تَنْزِلُ في العَنَانِ: وهو السَّحَابُ) أخرجه البخاري.
أما عددهم
فالمَلائِكة خَلقٌ كثيرٌ لا يعلَمُ عَدَدَهم إلَّا اللهُ تعالى. قال الله عَزَّ وجَلَّ:
وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31].
وقد سأل النَّبيُّ
صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جبريلَ عليه السَّلامُ عن البيتِ المعمورِ، فقال: (هذا البيتُ
المعمورُ يُصَلِّي فيه كلَّ يومٍ سَبعونَ ألفَ مَلَكٍ إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخِرَ
ما عليهم ).
موت الملائكة
من عقيدةِ
أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قد كتب على جميعِ الأحياءِ الموتَ،
وتفَرَّد وَحْدَه بالبقاءِ، وعلى هذا فهُم يؤمِنون بأنَّ المَلائِكةَ عليهم السَّلامُ
يجوز عليهم الموتُ، واللهُ قادِرٌ على ذلك .
قال اللهُ
عَزَّ وجَلَّ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27].
ثانيا- الصفات الخُلُقية
عُبُوديَّةُ
المَلائِكةِ وخَشْيَتُهم للهِ
المَلائِكةُ
عِبادٌ لله مربوبون ليس لهم من خصائصِ الرُّبوبيَّةِ والألوهيَّةِ شَيءٌ, و هم مطبوعون
على طاعةِ اللهِ وليس لديهم القُدرةُ على عصيانِه, فتَرْكُهم للمعصيةِ، وفِعْلُهم للطَّاعةِ
جِبِلَّةٌ، لا يُكَلِّفُهم أدنى مجاهَدةٍ. قال تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ
وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران: 80], و قال: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ
* يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 27 - 28], و من نماذج عبادتهم
لله : التسبيحُ و الطواف الاصطفاف لعبادة الل, قال سبحانه و تعالى (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ
بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] .) وتسبيحُهم لله دائِمٌ لا ينقَطِعُ. قال
اللهُ عَزَّ وجَلَّ: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:
20]).
المَلائِكةُ
كِرامٌ بَرَرةٌ ذوو حياء
وصف اللهُ
المَلائِكةَ بأنَّهم كِرامٌ بَرَرةٌ, أي: خَلْقُهم كَريمٌ حَسَنٌ شَريفٌ، وأخلاقُهم
وأفعالُهم بارَّةٌ طاهِرةٌ كامِلةٌ, قال اللهُ تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ
[عبس: 15-16]. و قد ورد في السنة النبوية أن الملائكة تستحي, قال رسول الله عليه الصلاة
و السلام عن عثمان رضي الله عنه: (أَلَا أَسْتَحِي مِن رَجُلٍ تَسْتَحِي منه المَلَائِكَةُ؟)
رواه مسلم.
علم الملائكة
قال اللهُ
تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلَاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ
لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:
31-32] .
فالملائكة
ليس لها من العلم إلا ماعلمها الله و في الآية السابقة دليل على عجز الملائكة في الإجابة
عن أسماء الأشياء و هم قطعا لا يملكون من علم الغيب إلا ما شاء الله, فقد أطلعَ اللهُ
بعضَ مَلائِكتِه بالعِلمِ الذي يحتاجون إليه فيما وكَّلَهم به، كعِلمِ المَلائِكةِ
الكِرامِ الكاتِبين بأعمالِ بني آدَمَ, قال اللهُ تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
* كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10 - 12] أو كعِلمِ
مَلَكِ الموتِ بمن حضر أجَلُه مِنَ النَّاسِ, قال اللهُ سُبحانَه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] .
و الملائكة
يتصفون بالكلام و الفهم فهم يكلم بعضهم بعضا, و يسألون و يجابون و يستفسرون, قال تعالى
: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: 23]
المَلائِكةُ
مُنظَّمون في جميعِ شُؤونِهم
عن جابِرِ
بنِ سَمُرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألا تصفُّون
كما تَصُفُّ المَلائِكةُ عند رَبِّها؟)) قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وكيف تصُفُّ المَلائِكةُ
عند رَبِّها؟ قال: ((يُتِمُّونَ الصُّفوفَ الأُوَلَ، ويتراصُّون في الصَّفِّ )) رواه
مسلم, وهم يجيئون يومَ القيامةِ صُفوفًا صَفًّا بعد صَفٍّ, قال اللهُ تعالى: وَجَاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22].
و نبدأ إن
شاء الله في الحلقة القادمة الحديث عن الأعمال الموكلة إلى الملائكة... و الحمدلله
رب العالمين
المراجع
صحيح مسلم
– صحيح البخاري – تفسير ابن كثير – البداية و النهاية لاين كثير – الإيمان بالملائكة
لابن باز – تفسير السمعاني – موقع الدرر السنية ( الموسوعة العقدية).