من المضحك ما يعتري الانسان المعاصر من صخب و"دوشة " وتشتت في الاتجاهات. فالرؤية الواضحة انقلبت غباشاً والأبيض بات رمادياَ, وبالتالي أضحت المفاهيم تحوطها كثير من الشبهات المستجدة و منها شبهة "فرضية الحجاب".
إن آخر ما توصل إليه هذا المنطق الضَّال أن الحجاب بدعة مرتبطة بمحيط وزمان معين مختلف عن زماننا الحاضر ؛ فاليوم وباختلاف الأجواء وتطور الخبرات والتقنيات باتت نظرية " فرضية الحجاب" موضع تساؤل وازدراء من قبل مدعي العقلانية والقرآءة المتجددة للنصوص الدينية.
لذا، كان لا بد لي من اتخاذ خطوة إلى الوراء لدراسة تطور"مفهوم لباس المرأة" وارتباطه بالتغيرات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.
وبكل تجرد, بدأت هذا البحث فكان أن تمخَّضت عنه المعادلة الأولى:
إن أول من فرض اللباس هو ربُ العالمين في سورة الاعراف, الآية 26 , إذ ورد فيها:
“يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون"
أما بداية فتنة الشيطان لهما فكانت ببساطة أن نزع عنهما لباسهما وأظهر لهما سوآتهما كما أوضحت الآية الكريمة:
“يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ "(الأعرف 27) .
ومن هنا تُضْحَض كل دعوات التعري التي يتشدَّق بها مناصروها بكونها رمزاً للحرية والتطورالإنساني فإذا بها الوجه الآخر لوسوسة الشيطان وألاعبيه.
حينها تصبح المعادلة الأولى كالتالي: الآمر بالسترهو رب العالمين والناهي عنه هو الشيطان الرجيم.
قد يقول قائل هذه المعادلة محصورة في الستر واللباس ولا دخل لحجاب المرأة فيها !!!
ففي إطار شرح آية "يواري سوآتكم " أي يسترعوراتكم , وبالنسبة لتحديد ماهية العورة للنساء فقد جاء تأكيد رسول الله بأن " المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان " فكان لا بد من ستر هذه العورة بالحجاب الشرعي الذي يصونها ويسترها بداءً من غطاء الرأس نزولاً إلى باقي أعضاء البدن.
وبما أنَّ أكثرية الإناث يتخِذن من الغرب قدوةً لهن فلنطلع على هذه الفرضية من ناحية " الأجانب" ؛ فقد أوردت صحيفة "لو ماتان" الفرنسية في مقال لها عام 2017 بأن الدراسات التاريخية للغرب قد أثبت أن حجاب المرأة المُغطي لرأسها كان جزءاً لايتجزء من لباسها وسترتها ودليلاً على عفتها ونُبلِها ومقامها الإجتماعي وتحررها من العبودية والفجور؛ فغطاء الرأس سمةٌ من سمات السيدة المُعتبرة وبسبب مقامه وقيمته المعنوية لا يجوز إرتداؤه من قبل صاحبات الرايات الحمر والأنثى المُستعبدة أي الغير الحرة . وبالفعل عكست اللوحات الفنية والفنون التشكيلية صوراً لحجاب المرأة المُستترة المُلتزمة بتعاليم الديانة المسيحية.
“En occident, les femmes ont du longtemps porter le voile ,symbole de pudeur ,de modestie le voile recouvre la tete des femmes depuis l`Antiquite”.(Page Histoire parue dans le leMatin Dimanche du 28 Mai 2017.
“Le voile est une obligation pour les femmes et filles d’hommes libres et interdit aux esclaves et prostituees” {la tablettes des lois assyriennes vers 1000 avant J.C}
إن هذا القانون هو الرد الواضح على كل من ادعى أن حجاب المراة وغطاء رأس الرجل أوجدتهما ظروف اجتماعية ومناخية لضرورة اتقاء حر الصحراء وأشعة الشمس الملتهبة في الجزيرة العربية ولو كان كذلك لما كان فُرض في أوروبا التي تتمتع بألطف درجات الحرارة وخصوصا في فصل الصيف .وسواء اقتنع البعض أو لم يقتنع فهو أمر رباني لا دخل لكائن به.
وفي بحثها : "تاريخ الحجاب من الجذور إلى الحجاب الإسلامي" أردفت الباحثة ماريا موزارلي بأنَّ أصل الحجاب لا يعود للشرق بل هو من صميم التاريخ الغربي وهو من الفرائض الواجبة دينياً؛ لذا فإنَّ هذا الاستنتاج منطقي جداًّ ذلك لأن الدين المسيحي سبق ظهور الإسلام بقرون, وَ الأمر الإلهي بالحجاب هو من صميم الديانات التوحيدية الثلاث.
وفي مقارنة بين السفور والخمر أشارالراهب الفرنسيسكاني "جان دو كابسترانفي" القرن الخامس عشر بإنَّ "النظر الى وجه المرأة هو أشد خطورة من شرب النبيذ".
”Le vin est nuisible mais cent fois plus nuisible est la vue des femmes “(le Franciscain Jean de Capistran 15e siècle Traite` des ornements’; car si on associe aujourd`hui les femmes voilees a` l`islam les origines de cette pratique ne viennent pas d`orient.”c`est bien dans l`histoire de l`Occident qu`il faut chercher la prescription faite aux femmes de se couvrir” (Maria Muzzarelli : `Histoire du Voile: Des origines au voile islamique` )
التحول الدراماتيكي عن هذه الفرضية بدأ في القرن التاسع عشر مع بزوغ فجر الحركة العلمانية في الغرب وتحديداً في فرنسا عام 1790م التي ناهضت الكنيسة وناصبت العداء لرجال الدين وعارضت سيطرتهم على المجتمع ومؤسساته إذ أنها حمَّلتهم وزر محاربة العلم ومحاكمة العلماء مما أسهم في دخول أوروبا في عصرالإنحطاط والظلمات .فمن الطبيعي أن تكون ردة فعل التنوريين جارفة لتعاليم الكنيسة "فكان أن دخل الغرب حينها في نظام اجتماعي يقوم على فكرة وجوب تأسيس القيم السلوكية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الإجتماعي دون النظر إلى الدين"(ميادة نصار : ما هي العلمانية).
وعلى عكس نظرية الكنيسة التي تزدري الجسد وترفع من شأن الروح والروحانيات بدأ التنويريون بتمجيد الجسد على حساب الروح وذلك بإظهار مفاتنه فكُشفت العورات وحوربت العفة فانزلق المجتمع نحو العلمانية فتم فصل الدين عن المجتمع بكافة أطيافه السياسية والأخلاقية وأضحت سيطرة رجال الدين لا تتجاوز جدران الكنيسة، وهكذا جسدت المنحوتات والرسومات في عصر النهضة جمال العُري والقوة البدنية ،مما أثر سلبياً على ستر المرأة وحجابها فأصبح المنديل ومن ثُمَّ القبعة رديفاَ للحجاب .
لقد أردفت المؤرخة موزريلي كيفية سقوط الحجاب من الرأس الى الكتفين ثمَّ أُكملت بحثها مؤكدةًّ بأنه في العام 1983 سُمح للسيدات بدخول الكنائس بدون غطاء الرأس بعد أن كان مفروضاً وذلك برخصة بابوية للبابا جان بول الثاني.
“Selon certains historiques,le port du voile en occident a perdure` jusqu`au tournant du 20e siècle. Des la fin du 19e siècle ,le foulard a pris le pas sur le voile .Il est tombe de la tete des femmes pour se porter sur leurs epaules.(Code du droit canonique promulgue` en 1983 par Jean Paul 2 est venue enteriner une certaine pratique : se couvrir la tete meme dans les eglises n`est plus requis. Ce foulard actuellement on le voit plus autour des cous des nostalgiques il est desormais solidement campe` sur la tete des musulmanes (Maria Muzzarelli :` Histoire du Voile: Des origines au voile islamique`
المعادلة الثانية : قد يتغيرشكل الحجاب وفق مجتمعٍ أو زمانٍ معين ولكن هذا لا ينافي فرضيته ؛ لذلك تعددت نماذج الحجاب وفق تقاليد كل مجتمع واحتياجاته مع الإبقاء على عنصري الحشمة والستر.
فالخطوط العريضة واحدة وأما التفاصيل فتتبع لخصوصية كل مجتمع على حدا.
وبالمناسبة أحب ان أرد على كل من تدعي بأن الحجاب الإسلامي هو حجاب القلب فأقول: " رجاءً لا تُحجبي قلبكِ فيغفل عن الحق ولا يرى الطريق المستقيم لأنه بهذا الفعل يكون محجوباً بإرادتك عن تلقي الهداية التي أعزَّنا المولى بها.
المعادلة الثالثة : سفور المرأة مظهر من مظاهر الحرية المزيفة : للأسف استنتجتْ بعض من المُغرر بهن بأنَّ نزع الحجاب نوع من أنواع الحرية المكتسبة وصورة مشرقة لاستعادة حقوقهن المسلوبة بفعل القهر الذكوري.، والصحيح بأنه صورة واقعية من التحرر من سلطة الدين وقيوده المستتِره تحت غطاء "أنا لم أقتنع " ؛
ولإعطاء قداسة لهذا المفهوم وليتُم قبوله في الأوساط "الثقافيه التقدمية ، العلمانية" كان لا بد من التركيز على سمو الأخلاق والمعاملات وربط التخلف وسوء التصرف وقلَّة الحيلة والحنكة للمتحجبة التي لا تفقه من الأمر شيء سوى "قال الله وقال رسوله".
لقد غفل هؤلاء عن كون الإسلام الحقيقي لا يقوم إلا بجناحيه : العبادات والمعاملات , إن الحجاب الشرعي مثله مثل أي عبادة أخرى لا يحتاج لاقتناع بل يحتاج إلى "سمعنا وأطعنا".
وتبقى الصورة الحقيقية "للسفور المُستجد" تتلخص بكونها استبدال الحرية الحقيقية المتمثلة بالعلاقة المباشرة برب العالمين واتباع أوامره واجتناب نواهيه بالحرية المزيفة المتمثلة بطاغوت المجتمع وتقلباته وأراء بعض المُنظرين الذين يضعون معادلات لا تلبث أن تُضحض بأخرى وذلك بحجة تطور المجتمع وتمدنه!!! خِتاماً لا بد من طرح السؤال البسيط على أنفسنا : ماذا نختار في إتخاذ قراراتنا المصيرية :الأرباب المتفرقون أم الله الواحد القهار "؟؟؟
المعادلة الرابعة :أيتها السيدات لا تقلدن الغرب لأن تاريخنا مختلف عنهم ولنا خصوصيتنا العربية التي نفتخر بها : لذا سأستعرِض التحولات والأسباب الاجتماعية والبيئية التي أدَّت إلى نزع الحجاب وحتى محاربته, فللحديث صلة....