بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على محمد و آله و أصحابه
الطاهرين.
لاتكاد ساحة من ساحات الإسلام إلا وللرفق فيها النصيب الأكبر والحظ الأوفر،
سواء على مستوى التشريع الفقهي أو في جانب العلاقات الاجتماعية أو في المعاملة حتى
مع الخصوم والأعداء أو في غيرها من المواطن، هذا فضلا عن أنه تعالى عرف نفسه لعباده
بأنه الرفيق الذي يحب الرفق، وكان رسوله صلى الله عليه وسلم نبراسا في هذا الشأن ما
لم تنتهك حرمة من حرمات الله.
إن هذا الارتباط الوثيق بين الإسلام والرفق جعل منه بحق دين الرحمة والسماحة
مهما تعسف المغرضون في وصمه بالعنف والإرهاب.
الرِّفق في اللغة ضدُ العنْف، وهو لين الجانب، ويقال: رَفَق بالأَمر وله وعليه: لان له
جانبه وحسن صنيعه, أما اصطلاحًا فهو اللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه، وأيسرها.
الرفق في
القرآن و السنة
قال سبحانه مخاطبًا الرسول: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215] أي: ارفق بهم وألن جانبك لهم.
فالناس في حاجة إلى كنف رحيم و رعاية فائقة و بشاشة سمحة و ود يسعهم وحلم
لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. هم بحاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى
عطاء ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه, بل يجدون
عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء ...وهكذا كان قلب رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس.
قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ
فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ
اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران: 159].
و لما أرسل
الله موسى إلى فرعون و هو الذي طغى و استكبر قال سبحانه لموسى و أخيه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44], فقوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا (أي: سهلًا لطيفًا،
برفق ولين وأدب في اللفظ من دون فحش ولا صلف، ولا غلظة في المقال، أو فظاظة في الأفعال،
لَّعَلَّهُ بسبب القول اللين يَتَذَكَّرُ ما ينفعه فيأتيه، أَوْ يَخْشَى ما يضره فيتركه،
فإنَّ القول اللين داع لذلك، والقول الغليظ منفر عن صاحبه).
أما
الرفق في حديث و عمل رسول الله فحدث ماشئت, فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي
من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به )) رواه مسلم, وعنها أيضًا عن النَّبي صلى الله
عليه وسلم قال: ((إنَّ الرِّفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه
) رواه مسلم.
نلاحظ هنا كيف جعل النبي الرفق أساسا في قبول الأمر و النفور منه,
فكل ما كان برفق هو جميل و زين و مقبول.
و عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من أعطي حظه من الرفق، فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق، فقد حرم
حظه من الخير".
يعني أن نصيب الرجل من الخير على قدر نصيبه من الرفق، وحرمانه منه على
قدر حرمانه منه
و قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله
". أي لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل والدفع بالأخف, وقوله ( في الأمر
كله ) في أمر الدين وأمر الدنيا، حتى في معاملة المرء نفسه و زوجته وخادمه وولده، فالرفق
محبوب مطلوب مرغوب، وكل ما في الرفق من الخير ففي العنف مثله من الشر.
فوائد
الرفق
من ثمرات
الرفق أنه طريق موصل إلى الخير و هو دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام و صلاح العبد وحسن خلقه, و فقه الرفيق وأناته وحكمته, و هو يثمر محبة الله ومحبة النَّاس و ينمِّي روح المحبة والتعاون بينهم.
و هو يجعل المجتمع سالـمًا من الغل والعنف و يزين سلوكنا و يجمل أعمالنا
و يلبسها لباس الإحسان و يسمو بأخلاقنا.
من صور
الرفق
الرِّفق بالنفس في أداء ما فرض على الإنسان
المسلم لا يُحَمِّل نفسه من العبادة مالا تطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة،
فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين
أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدُّلْجة
) رواه البخاري و مسلم
الرِّفق بالمدعوِّين إلى
الحق
الداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على النَّاس ولا يشق عليهم، ولا
ينفِّرهم من الدين بأسلوبه الغليظ والعنيف، (وأولى النَّاس بالتَّخلُّق بخلق الرِّفق
الدعاة إلى الله والمعلِّمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرِّفق في
دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم النَّاس لا يُؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرِّفق
الذي يملك القلوب بالمحبة) قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:
125]
الرفق بالمرأة
ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه " أنَّ النبيَّ
صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ في سَفَرٍ، وكانَ غُلَامٌ يَحْدُو بهِنَّ يُقَالُ له
أنْجَشَةُ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «رُوَيْدَكَ يا أنْجَشَةُ سَوْقَكَ
بالقَوَارِيرِ» قالَ أبو قِلَابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ.
و جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استوصوا بالنساء
خيرا)) و هذا أمر للأزواج والآباء والإخوة وغيرهم أن يستوصوا بالنساء خيرا وأن يحسنوا
إليهن وأن لا يظلموهن وأن يعطوهن حقوقهن.
الرِّفق بالخادم والمملوك
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: ((للمملوك
طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق )) رواه مسلم
الرِّفق بالحيوان
فمن الرِّفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض،
والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا رجل يمشي، فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثُمَّ خرج
فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ
خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله،
وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر )) البخاري
و ختاما إنَّ الرِّفق في الأمور، والرِّفق بالنَّاس، واللين، والتيسير،
من جواهر عقود الأخلاق الإسلامية، و هو من صفات الكمال، وإنَّ الله تعالى من صفاته
أنَّه رفيق، وأنه يحب من عباده الرِّفق، فهو يوصيهم به ويرغبهم فيه، ويعدهم عليه عطاءً
لا يعطيه على شيءٍ آخر, و الحمدلله رب العالمين
المراجع
النهاية لابن الأثير - فتح الباري لابن حجر - مرقاة المفاتيح للقاري - تفسير القرآن العظيم لابن
كثير - معالم التنزيل للبغوي - لسان العرب لابن منظور - تيسير الكريم الرحمن للسعدي
- الأخلاق الإسلامية لعبد الرحمن الميداني