بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين و آله و صحبه أجمعين
فقيه بلاد الشام وإمام أهلها ، القاريء ، الزاهد عبد الرحمن بن عمرو بن
يحمد الأوزاعي, كان والده يسكن بمحلة الأوزاع ، وهي العقيبة الصغيرة ظاهر
باب الفراديس بدمشق, ولد في مدينة بعلبك سنة 88 هجرية 707 ميلادية ، ثم تحول إلى بيروت
مرابطاً بها إلى أن مات, وقد عاصر الدولتين الأموية والعباسية , و كان خيراً ، فاضلاً
، مأموناً كثير العلم والحديث والفقه ، حجّةً في زمانه.
نشأ يتيما في حجر
أمه في البقاع ، قضى خمسين عاماً من عمره في أيام الدولة الأموية وبقية عمره في إطار
الدولة العباسية و لقي من أئمة الشام عطاء بن أبي رباح ، والزهري شيخ المدينة المنورة
والحارث بن يزيد الحضرمي وخلق كثير من التابعين ،
و حدث عنه الإمام مالك بن أنس، والثوري ومحمد بن يوسف الفريابي و غيرهم.
تأدب الأوزاعي بنفسه ، فلم يكن في أبناء الملوك والأمراء والتجار وغيرهم
أعقل منه ولا أعلم ، وكان رأسا في العلم والعبادة, قال العباس بن الوليد: " عجزت
الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه.
ناظر الإمام مالك في المغازي فغلبه الأوزاعي, إذ يروي أبو زرعة الدمشقي رجوع مالك عن فتواه قائلا: "أصاب الأوزاعي"!
بل إن الإمام مالك قدّم الأوزاعي على سفيان الثوري وأبي حنيفة -حين سُئل عنهم- قائلا:
"كان أرجَحَهم الأوزاعي"،كما ناظر سفيان الثوري حول مسألة رفع اليدين عند
الركوع وعند الرفع منه ، فنجح الأوزاعي بعلو الإسناد, وناظر منكري القدر ، وعلى رأسهم
غيلان القدري في زمن الخليفة هشام بن عبد الملك ، فضربت عنق غيلان.
عاصر الاوزاعي مدرستي الحديث والرأي ، وكان يستنبط الأحكام من الأصول
الأربعة ، القرآن والسنة والإجماع والقياس .
ظل يُعمل بمذهبه في الشام لمائتي سنة ، إلى أن زاحمه مذهب الإمام الشافعي
، ولا يزال أهل بيروت والبلدان الشامية متأثرين إلى اليوم بمذهبه وتأثيراته , و كان
من أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع مذهبه أن تلاميذه لم يدونوا علمه, كما لم يتيسر
لمذهبه أن ينصره سلطان كما أتيح ذلك لغيره, إلى إقامته مرابطا في ثغر بيروت و التي
لم تكن مركزا يقصده الناس كالمدينة المنورة محجة العلم والعلماء أو بغداد.
وقد ثبت أن للآمام مؤلفات كثيرة احترقت في الزلزال الذي وقع في بيروت,
قال الوليد بن مسلم قال: "احترقت كتب الأوزاعي زمن الرجفة، ثلاثة عشر صندوقا".
و عرف التاريخ الإسلامي كثيرا من هذه الكتب و منها: مسند الإمام الأوزاعي و ذكره صاحب كشف الظنون,
السنن في الفقه و المسائل في الفقه و ذكرها ابن النديم في الفهرست, سير الإمام الأوزاعي
و ذكره إسحاق الكوسج في المسائل، وذكر أنّ هذا الكتاب لم يصل إلينا للأسف، والذي وصل
إلينا منه هو ما ضمنه أبو يوسف الأنصاري في كتابه الرد على سير الأوزاعي، وما جاء ضمن
كتاب الأم للإمام الشافعي بعنوان سير الأوزاعي.
كان الأوزاعي إمام عصره ببلاد الشام بلا منازع ، وله رسائل وجهها إلى
الخلفاء والولاة ، وعلى الرغم من التسامح واللين في شخصيته ومكانته العلمية، فقد كان ينصح لهم ويغلظ عليهم القول إذا رأى من
أعمالهم ما يضر بالأمة .
اختار الإمام الأوزاعي مدينة بيروت للرباط والجهاد لما كان لها من مركز
عسكري مشرف على البحر المتوسط ، فقد كانت لؤلؤة المشاهدين . فرابط على ساحلها الى أن
مات عاملا بالآية الكريمة : (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ
وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) الأنفال (60), حيث توفي الإمام الأوزاعي في بيروت عام 157 هجرية ، وقبره مشهور على مدخل
بيروت وتعرف المنطقة اليوم باسمه ، وقد خرج في جنازته أربعة أمم - حمل نعشه المسلمون
، وخرجت اليهود في ناحية - وخرجت النصارى في ناحية ، كما خرجت القبط في ناحية و ذلك
لما كان له من مواقف مشهودة في إنصاف أهل الذمة من الولاة في لبنان.
رحمه الله وجزاه الله تعالى عنا
كل الخير والجزاء الحسن و الحمدلله رب العالمين.
المراجع
البداية والنهاية لابن كثير, سير أعلام النبلاء للذهبي, صفة الصفوة لابن الجوزي, تاريخ دمشق لابن عساكر
– الفهرست لابن النديم