بسم الله
الرحمن الرحيم - وأفضل الصلاة وأتم التسليم ، على سيدنا محمد إمام المتقين ، وعلى آله
وصحبه أجمعين .
تتنازع
في الانسان قضايا وجوديةٌ
و أسئلةٌ عميقةٌ عن الحياة و النشأة و النهاية , و الكثير غيرها من الطروحات من مثل : من هو أول إنسان وجد
في هذه الحياة ، وما هي هذه الحياة أصلا, وكيف
تسير؟ وما الحكمة من وجودها و لماذا خلقنا
الله؟ و ماذا يريد منا؟ وهل هنالك خلق آخر قبل الإنسان ؟ و هل فعلا تطور الإنسان
من شيء إلى شيء آخر؟
ينسى
العلمانيون و الفلاسفة وهم يطرحون هذه الأسئلة أنّ الله هو الخالق و
المتصرف في كل
شيء و له الحكمة المطلقة و العلم كله، فهو سبحانه يقول : { وَرَبُّكَ
يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } القصص (66) وهو {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} البروج
(16), و له
وحده الخلق و الأمر { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } الأعراف (54),
كما ينسون أنّه -مهما سما الإنسان في تفكيره وذكائه – يظلّ
عبدًا قاصرا في إدراكه ، فهو ضعيف البنية ، قليل العلم وإن تعلم واختبر ،
لا يدرك من شؤون الخليقة إلا القليل ,
و هو بشر من طين، يجهل أكثر مما يعرف
و له حدود في العقل و الإدراك و الحكمة, و قبل ذلك كله فإنه عبد مخلوق
ضعيف ليس له أن يسأل الخالق لمَ فعل
كذا وما أسباب خلقه للخلق {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ} الأنبياء
(23).
وفي العموم فان هذه
أسئلة غيبية لا يستطيع الإنسان الإجابة
عليها لمحدودية عقله وتصوره وإدراكه وقصور علمه , ومن منطلق موقعه كسائل ،
فإنه يدل على أنه مخلوق محتاج ، وكل من كان محتاجاً فهو ضعيف , و إن
الله أعز و أعلى من أن يُسأل و يفسر و يبرر, فالإجابة
على هذه الأسئلة الغيبية لا تخضع لمنطق العقل السببي و إنما هي قضايا
تتعلق بعلم الله وقضائه وقدره , ومع ذلك ، كشف الله لنا بعضها و أخفى
منها ما أخفى لحكم بالغة, فقد بين لنا ما نحتاج إليه من إجابات عن أسئلتنا
بما يقوي إيماننا به و ذلك تثبيتاً
و هدايةً منه لنا و اختباراً لإيماننا و تسليمنا.
ومما أخفاه الله تعالى عن البشر هو حقيقة الروح ومكانها وأين تكون قبل وبعد هذه الحياة ، وكذلك العلم بالساعة ، لكمال الاختبار .
و خلاصة
القول: ليس هامّاً و لسنا بحاجة أن نعرف كل الإجابات و مطلق الحكمة في كل أمر حتى نعبد الله, و إنما
الأهم أن نعرف الله تعالى أنه الإله الحق الفعال لما يريد وأن نقوم بكل ما أراد منا القيام به.
قصة الخلق
من القرآن الكريم و السنة النبوية
إذا رجعنا
إلى كتاب الله تعالى لوجدنا أن آدم عليه السلام
أول البشر وأبو البشرية ، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ
إِنِّي خَالِقٌ
بَشَراً مِّن طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي
فَقَعُواْ
لَهُ سَاجِدِينَ) ص (71), وهذا دليل قوي على أن الله تعالى خلق الملائكة
قبل أن يخلق
آدم عليه السلام و قد خلقهم الله تعالى من نور، لا يعلمهم إلا هو، وهم على
طاعة ربهم مجبولون , لا يعصون الله طرفة عين ، وهم بأمره يعملون،
ولو أرادوا معصية الله لما استطاعوا ، لأن
الله لم يخلق فيهم القدرة على معصيته.
وكذلك
خلق الجان ، بدليل قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ)
الحجر(27), والجان جنس من خلق الله تعالى, خلقهم من مارج من نار, (وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ
مِن مَّارِجٍۢ مِّن نَّارٍۢ) الرحمن (15) وهو لهب النار الصافي والمختلط بالدخان ، وفيه ما فيه من الخفة والعلو والاضطرام والاضطراب
والشيطنة, جعل الله فيهم القدرة على الاختيار بين سبيل الخير وسبيل الشر ، وهم يأكلون
ويشربون ويتناكحون ويموتون كالإنسان ، إلا أن الشيطنة والفساد فيهم أقوى، نظراً إلى طبيعة خلقهم النارية ، والتي إذا وقعت
في دار أحرقته وأحرقت كل شيء فيه ولم تميز بين ما هو صالح وبين ما هو رديء ، وقد عمروا الأرض قبل الإنسان بمئات السنين ، ففسدوا
فيها وقتلوا وشردوا وأغار بعضهم على بعض ولم يكن فيهم ممن اتقى ربه إلا قليل .
أما خلق
بني آدم : فقد خلقه الله تعالى من طين لازب، وخلق فيه القدرة على الاختيار بين الخير والشر ،
فكان كثير منهم يميل الى الهدوء ، وإلى الفكر والتفكر و التعقل وكان إلى الطاعة والعبادة
أقرب , لذلك
كان بنو آدم قريبين إلى الله تعالى فيما أمر - ولكن إبليس حين رأى إكرام الله لآدم وتفضيله عليه ، وتعليمه
له (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ
أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ
عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة
(31-32)، ومن ثم أمر الله إبليس و الملائكة بالسجود له تحيةً وتكريماً، فكانت
نتيجة ذلك أن جعل إبليس شغله وهمه الانتقام من ذلك الإنسان بعد أن اتخذه عدواً له, لكي
يضله عن سبيل الله ويزين له الشر والفساد ويحيط به من كل مكان ليدفعه إلى الشر دفعاً
قائلا : (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء (62) وقال
:( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ) ص (82)-83، وقال عنه أيضا
قوله (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ
وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِين) الأعراف (17).
إذن القضية
أن إبليس تكبر وامتنع عن تنفيذ أمر الله تعالى
حين قال: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)
الأعراف (12).ثم حقد على
آدم وزوجه وذريته بعد إذ طرده الله من الجنة ومن رحمته ولعنه إلى يوم القيامة .
رقت الملائكة لآدم وذريته مما يحضره إبليس لآدم وذريته ، فقال
الله تعالى لهم : انهم ما عصوني ثم تابوا إلي
واستغفروني لأغفرن لهم . وفي الحديث القدسي (يا ابن
آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك
عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض
خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي عن أنس بن
مالك.
هذا تكريم
الله لبني آدم وتفضيله ، وقد خلق آدم فأكرمه
وجعل من ذريته شعوباً وقبائل ليتعارفوا و
يتعاونوا على البر و الخير, وجعل فيهم الأنبياء والرسل وبعث فيهم خاتم النبيين محمداً
عليه الصلاة والسلام خير خلق الله كلهم - ولأجله نورت الحياة وتزينت الأرض وأعدت الجنة
قبل أن يخلق الله آدم بخمسمائة عام .
وهنا
: سر خلق الله تعالى لآدم وبني آدم والحكمة من ذلك , أنهم خلقوا يختارون بين الخير
والشر ليعبدوا الله و ليكونوا خلائفه في الأرض يعمرونها بالعبادة و العمل الصالح، أمرهم الله تعالى بطاعته وعبادته (وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون) الذاريات (56).
الحكمة
الجامعة في الخلق
أحب الله
تعالى أن يعرف ، فخلق العرش وخلق السماوات والأرض وقال للسماوات والأرض (فَقَالَ لَهَا
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت
(11), وأحب الله أن يعرف ويذكر ، فخلق الملائكة
الكرام فهم يسبحونه ويمجدونه: ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُون)
الأنبياء (20), وأحب أن يعرف فيعبد ويشكر ويذكر
- اختياراً ورغبةً من نفس العبد ، فخلق
الجان ، وجعل كل ذلك فيه - ولكن الجن لم يقدر على الاستمرار بالطاعة والشكر والعبادة
، فتخلف وانبرى يعصي الله ويفسد في الأرض وذلك لكون خلقه من سموم النار ، فكان فيه
الاضطراب والشيطنة. ثم خلق آدم وجعل فيه المعرفة والطاعة والعبادة والذكر
- وجعله مختاراً بين فعل الخير والشر , و من أجل ذلك قالت الملائكة: ( قَالُوا أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ
لَكَ) البقرة (30), ذلك بعدما رأوا سلفه الجن والشيطان و عمارتهم الأرض وفسادهم فيها
، فقال سبحانه قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة (30), فكان من
بني آدم المؤمن الذي عرف الله فشكره وعبده
وأطاعه وذكره - ثم هنالك من عصاه ثم تاب إلى الله تعالى فغفر له - ومنهم من شط وكفر
وعصى واستجاب لنداء الشيطان الذي أعمى بصيرته وصده عن السبيل وسول له .
العداوة
مع الشيطان
إن الله
تعالى يحذرنا من الشيطان وغوايته فيقول : (إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ
عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ)
فاطر (6). وقال سبحانه: ( إِلَّا إِبْلِيسَ
كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)
الكهف (50).
فكان
نتيجة أن من بقي على فطرة الله تعالى سليماً بعيداً عن كيد الشيطان ومكره واتبع الرسول
صلى الله عليه وسلم ، كان ممن أنعم الله عليهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين
وحسن أولئك رفيقا - يباهي الله بهم الملائكة ويقول لهم ، أنظروا هؤلاء عبادي آمنوا
بي واتقوني وعبدوني حق العبادة وذكروني آناء الليل وأطراف النهار ، ولم يستجيبوا لعدوهم
إبليس وجنوده - أشهدكم بأني قد غفرت لهم .
وأما من تبع ابليس وجنوده فكانوا جميعا في
غضب الله وعذابه: ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ
مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ.) ص (84-85) وقال: ( قَالَ اذْهَبْ فَمَن
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا) الإسراء
(63).
دور
الرسل و الكتب السماوية
لما
غرر الشيطان الرجيم بآدم و زوجه فأخرجهم من الجنة التي أسكنهم الله , تاب
الله على آدم فأسكنه و ذريته الأرض فأراد الله أن يرسل رسله و كلامه تذكرة
للناس و معونة لهم و تذكيرا بعداوتهم للشيطان قبل أن يحين معادهم إلى الله و
حسابهم فإما الجنة و إما النار.
قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة.
و
الحمدلله رب العالمين
المراجع
تفسير
ابن كثير – تفسير البغوي – تفسير القرطبي - صحيح البخاري – تفسير الطبري